بحث في مسألة نجاة والدي المصطفى
إظهار الحق بوجوب الدفاع عن سيد الخلق
بقلم
خادم العلم الشريف أبي الفضل
أحمد بن منصـور بن اسماعيل قرطـام
الفلســطيني المالكي الأشعري
كان الله له ولوالديه ولعامة المسلمين بمنه وكرمه
آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفانا للإسلام وجعلنا من أتباع خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، القائل فيما رواه عن ربه في الحديث القدسي:"من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" أخرجه البخاري في كتاب الرقائق باب (38).
والقائل كذلك:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب (.
ومن أَجَلِّ وأَوْكَد مظاهر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفاع عنه وعدم إذايته في أبويه وآله وصحبه؛ لأنَّ في إذايتهم إذاية له صلى الله عليه وسلم، وفي إذايته إذاية لله تعالى.
ومما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمس من شرف نبوته وشرف نسبه القول بدخول أبويه الشريفين جهنم والعياذ بالله قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ ,رَسُولَهُ لَعنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنيَا ,الأَخِرَةِ ,أَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُّهِيناً " سورة الأحزاب آية (57) ,لسائل أن يسأل ما الفائدة من طرح هذه المسالة أو التكلم فيها أصلا لما فيها من خطر إفساد عقيدة العوام وإثارة الاختلاف في صفوف المسلمين ؟ في حين أنها مسألة لم يكلفنا الله بها ولم يتعبدنا بها فلا يضرنا جهلها ولا ينفعنا علمها لأنه لو مات أي إنسان وهو لا يعلم هذه المسألة لا ضير عليه قطعا باتفاق من يعتد به من أكابر علماء أهل السنة والجماعة كالإمام أبي حنيفة ونصه في ذلك صريح في كتابه الفقه الأكبر والإمام مالك والشافعي وأحمد رضى الله عنهم أجمعين. أما من خالفهم من الخارجين عن الصف القائلين بعذاب أبوى النبي صلى الله عليه وسلم فيروجون فتنتهم لمرض في قلوبهم قال تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلَهُ " سورة آل عمران آية (7) وعمدتهم في ذلك حديثين من الآحاد وهما:
1) حديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي"
2) ما رواه مسلم أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي قال: في النار فلما قضى دعاه فقال:" إن أبي وأباك في النار "
والمتأمل في هذين الحديثين يستطيع أن يتبين علتهما وذلك لمعارضتهما لصريح القران كقوله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء آية (15) ولقوله تعالى:" ذَلِكَ أَن لَّم يَكُن رَّبُّكَ مُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا غَافِلُونَ " سورة الأنعام آية (131) والقوم الذين بعث فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين منهم أبويه لم يأتهم نذير قبله لصريح قوله تعالى:" وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ " سورة سبأ آية (44) ولقوله تعالى:" لِتُنذِرَ قَوماً مَّا أَتَـهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبلِكَ لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ " سورة السجدة آية (3) فمعارضة هذين الحديثين المخالفين لفظاً ومعناً لصريح القرآن الذي هو قطعي الثبوت مع عدم إمكانية الجمع بينهما سقط الاحتجاج بهما وتمسكنا بالقرآن كما هو مقرر وحسب قواعد الشريعة قال الإمام النووي في شرح المهذب ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره والقاعدة عند علماء أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتُريدية بل وجميع العقلاء أن خبر الآحاد متى عارض الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع المعتبر لفظا ومعنى مع عدم امكانية الجمع بحال سقط الاستدلال به، وكذلك اتفقوا على العمل به في العمليات دون الاعتقاديات، بمعنى أن مسائل العقائد مبنية على القطعيات التي تفيد العلم اليقيني والتي يكفر منكرها. بخلاف الآحاد الذي لا يفيد إلا الظن وبالتالي ما ينبني عليه من الاحكام لأن غالبه محل خلاف بين العلماء إلا ما أجمعوا عليه فيرتفع فيه الخلاف لأجل الإجماع وليس لذات الدليل وهذه قاعدة قل من يعلمها ممن ينتسبون للعلم اليوم فمن باب الأولى عامة الناس، وهذا لا يخالف ما قلناه سابقا من أن مسألة نجاة أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينها ليست من المسائل العقائدية. ولكن من العقيدة التي يجب على كل مؤمن أن يعتقدها ولا يجوز له جهلها فضلاً عن إنكارها هي أن أهل الفترة ناجون وإن بدلوا وغيروا بدليل النصوص القرآنية القطعية السابقة الذكر وأبوي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة بلا خلاف.
فصل
قال مولانا المنعم الفقيه الأصولي المحدث المفسر النحرير واللغوي الكبير علامة المغرب بل الدنيا سيدي عبد الله بن الصديق الغماري عليه من الله رحمة الباري وطيب الله ثراه وجعلنا على خطاه في كتابه الموسم " بالخواطر الدينية " أهل الفترة هم الذين عاشوا في زمن لم يكن فيه نبي ولا رسول بعث اليهم، كالعرب الذين عاشوا في الفترة والتي بين سيدنا اسماعيل ونبينا عليهما السلام وكذلك أهل الكتاب الذين عاشوا في الفترة التي بين سيدنا عيسى ونبينا عليهما السلام والحكم فيهم عند الجمهور أنهم ناجون ولو غيروا وبدلوا لقوله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء آية (15) وغيرها من الأيات والتي مر بعضٌ منها، وأجابوا عن تعذيب بعض أهل الفترة بأنها آحاد لا تقوى على معارضة القرأن زيادة على أنها تحتمل التأويل أما من أشرك من أهل الفترة وغير بابتداع أمور شركية مثل عمرو بن لحي وهو أول من أدخل الأصنام إلى مكة فيعذب لورود نص فيه بعينه، ولا يُعترض علينا بالقاعدة التي تقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن ذلك يتعارض مع صريح القرأن فتعين أن يكون حكما خارج على غير قياس. أما بعد البعثة المحمدية التي عمَّت غالب أهل الأرض جميعا فلا يوجد أهل فترة ولكن قد يعترض علينا بوجود من لم تبلغه الدعوة وهو اعتراض قد يكون صحيح فلو افترضنا وجود شخص ما في بعض مجاهل القارة الافريقية أو غابات أمريكا مثلا لم يسمع بالإسلام ولا عرف شيئا عن توحيد الله تعالى ولم يسمع بأن هناك نبي اسمه محمد صلى الله عليه وسلم وعاش بين الغابات فإنه ناج بلا شك حتى ولو اعتنق بعض الديانات كالنصرانية مثلا ذلك لأن بلوغ الدعوة شرط في توجه الخطاب التكليفى للشخص فحيث لم تبلغه الدعوة بدون تقصير منه لا يكون مكلفا. وأما الذين ولدوا بين أبوين يهوديين أو نصرانيين وبلغتهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأي وجه من الوجوه فهم كفار بلا نـزاع بحيث لو خير أحدهم بين الإسلام والموت لاختار الموت على الإسلام. انتهى بتصرف.
فصل
أما ما جاء في قوله تعالى " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَستَغفِرُواْ لِلمُشرِكِينَ ولَو كَانُواْ أُوْلِي قُربَى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحَابُ الجحِيمِ" سورة التوبة آيه (113).
فلا يحتج به على أهل الفترة وذلك لأن هذه الأية نـزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تتعلق بوالديه لا من قريب ولا من بعيد ولا تصريحا ولا تلويحا لما هو مقرر ومعلوم ومشهور وذلك لأن أبا طالب أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يسلم، أما أبواه فلم يدركا البعثة فأين هذا من هذا....؟ ويقوي ذلك ما رواه أبو داود والبيهقي من أن سيدنا على كرم الله وجهه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" إن عمك الشيخ الضال قد مات فقال: إذهب فواره وفي رواية:" إن عمك الشيخ الكافر.
فصل
يجب أن يعلم بأن القاعدة العامة المتفق عليها في كيفية إقرار الحكم الشرعي أنه لا يؤخذ من دليل واحد غالبا بل هو نتيجة لمجموعة من الضوابط المشتركة بين الايات والأحاديث التي تبنى على بعض القواعد الأصولية والحديثية والعقائدية واللغوية التي لا غنى عنها لفهم معاني النصوص التي أُستُقرئت وضُبِطَت الشريعة الغراء من خلالها قبل النظر واصدار الحكم الشرعي ونحن بحمد الله وتوفيقه نبين بعض هذه القواعد التى لا بد منها لفهم هذين الحديثين على وفق ما اتفق عليه كبار أهل الحل والعقد من نقاد علماء أهل السنة والجماعة من حفاظ وأصوليين وغيرهم أن من أسباب رد الحديث:
1) مخالفته لصريح القرآن لفظاُ ومعنى مع عدم امكانية تأويله ليوافق القرآن بلا تكلف.
2) مخالفته لصريح العقل السليم لأن أفعال الله تعالى لا تخلو عن حكمة وإن كنا لا ندركها غالبا ولأن العقل شاهد من شواهد الشرع فالشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول.
3) أنه لا يستدل في العقائد إلا بالمتواتر أو المشهور خلافا لأبي حنيفة رضى الله عنه الذى يرى أنه يجوز الاستدلال بخبر الأحاد في العقائد بشرط أن لا يكون له معارض من القرآن أو من السنة المتواترة أو المشهورة.
وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لا عنده رضى الله عنه ولا عند غيره من باب الأولى لأن القاعدة عنده أن الظني لا يقوى على معارضة القطعي والقرآن عنده قطعي الثبوت ويمثل له بهذه الأية:" ومَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء أية (15) ويؤيد ذلك ما قاله الأصوليون من أن " عدم الاستفصال يؤدى إلى تعلق الحكم في عموم المقال " وهذه الأية تدخل تحت هذه القاعدة " وكذلك قولهم أيضا " الأعراض في موضع البيان يفيد الحصر " وهو يتطابق مع هذه الأية، أن كل من لم يأته رسول لا يعذب إلا ما خرج على غير قياس هذا في كيفية العمل إذا ما عارض الحديث القرأن أما إذا ما عارض الحديث الحديث فكلامهم في هذا الباب كثير ينحصر في ثلاثه قواعد عند الأصوليين والمحدثين:
1) إذا ما ثبت حديثان صحيحان سنداً ومتناً متعارضان في اللفظ متفقان في المعنى يجب الجمع بينهما عملا بقاعدة " ما أمكن الجمع جمع "
2) إذا كان الحديث الأول صحيح والثاني ضعيف يقدم الصحيح على الضعيف باجماع أهل هذا الفن.
3) إذا كان الحديثان صحيحان ومختلفان لفظا ومعنى بمعنى لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه الصحيحة فينظر الى ما هو قديم وما هو جديد فيكون القديم منسوخ والجديد ناسخ لاستحالة الجمع بينهما مع الجزم بثبوتهما والمعلوم أن السنة لا تتعارض فتعين النسخ وكان لزاما معرفة التاريخ فإن لم يعلم القديم من الجديد وجب إسقاط العمل بكلا الحديثين وتعين البحث عن دليل أخر لاجتناب الترجيح بغير مرجح وهو حرام... حرام.... حرام.... بإتفاق الجميع.
فصل
في كيفية نقد هذين الحديثين كل على حده
أ. حديث " إستأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي "و في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بكى وأبكى من حوله فإن هذا الحديث لا يصح الاستدلال به على أن والدته صلى الله عليه وسلم في النار لعدة أمور:-
1) أن هذا الحديث يعارض معارضة صريحة قول الله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء أية (15) وقوله تعالى:" وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ " سورة سبأ آية (44).
2) أن بكائه صلى الله عليه وسلم على أمه لا يدل على أنها من أهل النار بأي وجه من الوجوه بدليل أنه بكى على إبنه إبراهيم كما في الصحيحين إذ قال:" تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون".
3) إن الله تعالى أذن له بزيارة قبرها يدل على أنها مؤمنة وليست كافرة من أهل النار وإلا لتعارض صدر الحديث مع عجزه ناهيك أيضا أن الله تعالى قد نهاه أن يقوم على قبور الكفار والمنافقين بقوله عز من قائل:" ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنهُم مَّاتَ أَبَداً ولا تَقُم عَلَى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَرُواْ بِاللهِ ورَسُولِهِ ومَاتُواْ وهُم فَاسِقُونَ " آية (84) من سورة التوبة وحاشى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف أمر الله تعالى ومن يظن ذلك فليس له نصيب من الإيمان في شيء.
ب. حديث أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار " فلما قفى دعاه فقال:" إن أبي وأباك في النار " الحديث فمما يجب أن يعلم أن لهذا الحديث ثلاثة طرق:-
1) السند الأول عن طريق حماد بن سلمة عن ثابت وهي التي جاء فيها: إن أبي وأباك في النار.
2) السند الثاني عن طريق معمر عن ثابت وهي خالية من ذكر " إن أبي وأباك في النار".
3) السند الثالث عن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص وهي خالية أيضا من ذكر إن أبي وأباك في النار غير أنها تنتهي بقوله صلى الله عليه وسلم:" حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" فالطريقه الأولى في سندها ثابت وحماد بن سلمة. أما ثابت فهو عند بعضهم ثقة ولكن ذكره ابن عدي في الضعفاء وعلل الحديث فقال:" إنه وقع في أحاديثه ما ينكر، وهذا الحديث منها وأمَّا حماد فقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة " فتح الباري": حماد بن سلمة بن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات إلا أنه ساء حفظه في الآخر. وقال السيوطي عن حماد بن سلمة في كتابه " مسالك الحنفا في نجاة والدي المصطفى " إن حماد تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه وكان حماد في آخر حياته لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئا ولا خرَّج له مسلم في اصول الدين إلا من روايته عن ثابت. قال الحاكم في المدخل " ما خرج مسلم لحماد إلا من حديثه عن ثابت. انتهى.
أما السندان الثاني والثالث ففي سند الرواية الثانية معمر عن ثابت عن أنس عوضاً عن حماد عن ثابت والرواية الثالثة جاءت بالسند الأتي فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" أين أبي ؟ قال:" في النار" قال:" فأين أبوك" قال:" حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار " ويُلاحظ أن السند الأول ذكر فيه حماد عن ثابت والسند الثاني ذكر فيه معمر عن ثابت ومن المعروف أن معمرا أثبت من حماد بدليل أن حماداً تُكلِّم في حفظه كما سلف ولم يتكلم أحد في معمر. قال السيوطي في نفس المرجع المذكور وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا اسْتُنكر شيءٌ من حديثه واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت أي فتكون روايته أوثق وأثبت وأقرب الى الصحة. وأما سند الرواية الثالثه فقد قال السيوطي في نفس المرجع " وهذا إسناد على شرط الشيخين فتعين المصير اليه والاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره " قلت وذلك لصحة سنده وقوة ودقة متنه وخلوه من الشذوذ والعلة لا سيما عدم معارضته لصريح القرآن.
فصل
لو فرضنا أن الحديث بالطريقة الأولى ثبت وصح فيجب علينا أن نأوله بما يقبل التأويل، وذلك لوجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزم تخريج الحديث عن ظاهره ولما ذكرناه سابقاً أنه خبر أحاد يقبل الأحتمال والتأويل والقاعدة تقول:" أنَّ ما دخله الإحتمال سقط به الاستدلال"، زيادة على مخالفته لصريح القرآن وكما أشرنا اليه سابقا إلا أن بعض علمائنا لم يذهبوا إلى إسقاطه وأولوه بما يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:" إن أبي وأباك في النار " قصد بذلك عمه أبو طالب لأنه هو الذي حضر البعثة ولأن في اللغة يطلق الأب ويراد به العم ودليل ذلك من القرأن قوله تعالى:" أَم كُنتُم شُهَدَاءَ إِذ حَضَرَ يَعقُوبَ المَوتُ إِذ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعبُدُونَ مِن بَعدِى قالوا نَعبُدُ إِلَـهَكَ وإِلَـَه ءَابَائِكَ إِبرَاهِيمِ وإِسمَاعِيلَ وإِسحَـقَ إِلَـهاً وَاحِداً ونَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ " سورة البقرة أية (133) فإسماعيل ليس أبا ليعقوب فهو عمه وسماه الله أبا له.
قال ابن الجوزي في كتابه:" نـزهة الأعين النواظر" وذكر أهل التفسير أن الأب في القران على أربعة أوجه:
أحدهما: الأب الأدنى ومنه قوله تعالى: " وَأُمِهِ وَأَبِيهِ " سورة عبس آية (35) وقوله:" ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ " سورة النساء آيه (11).
ثانيهما: الجد ومنه قوله تعالى:" مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيم " سورة الحج آية (78).
والثالث: العم ومنه قوله تعالى:" نَعبُدُ إِلَـهَكَ وإِلَـَه ءَابَائِكَ إِبرَاهِيمِ وإِسمَاعِيلَ " سورة البقرة آية (133).
و الرابع: الخالة ومنه قوله تعالى:" وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ "سورة يوسف آية (100).
و من الوجه الثالث ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:" إحفظوني في العباس فإنه بقية أبائي "مع أنه عمه وهذا الحديث " إن أبي وأباك في النار " مردود إن قلنا أن قوله فيه أبي " هو أبوه عبد الله بن عبد المطلب وذلك لأن أباه عبد الله من أهل الفترة لأنه لم يدرك بعثته صلى الله عليه وسلم قطعا ولأنه من قوم لم يأتهم رسول بدليل الأيات السابقه ولأن لفظة الأب في اللغة تحتمل الجد والعم والأب الأدنى وحَملُها على واحد بعينه تحتاج الى قرينة والقرينة الظاهرة في الحديث تدل على العم وحملها على أب النبي صلى الله عليه وسلم فيه تهكم وهو في شرعنا ممنوع وهذا مما فهمه الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم عندما بوب له " أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين" والمراد بذلك أبو طالب الذي أدرك بعثته صلى الله عليه وسلم وأبى أن ينطق بالشهادة ومات على الكفر كما ذكرنا سابقاً من حديث علي كرَّم الله وجهه والإجماع منعقد على وجوب تكفير الأبي الممتنع وأنه خالد مخلد في نار جهنم قال سيدي أبو عبد الله الفاسى المالكي في كتابه مراصد المعتمد في مقاصد المعتقد:
و من يكن ذا النطق منه ما اتفق فإن يكن عجـزا يكن كمن نطق
و إن يكـن ذلك عـن إبــاء فحكمه الكفـر بـلا امتــراء
و إن يكن لغفلـة فكـالإبــا وذا لسنـةِ عيـاض نسبــا
و قيـلَ كالنطـقِ وللجمـهـورِ نسبَ والشيـخ أبـي منصـور
و هذا ينطبق على أبي طالب فقد عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا اله الا الله فأبى رواه البخاري.
فصل
مما يستدل به على نجاة أبوي المصطفي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة
أولاً: قوله تعالى:" ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الإسراء أية (15) فالآية عامة وصريحة في أن الله تعالى لا يعذِّب أحداً حتى يرسل الرسل قال الألوسي صاحب روح المعاني في تفسيره عند شرح هذه الآية:" وما صح وما استقام بل استحال في السنة الإلهية المبنية على الحكم البالغة أو في قضائنا السابق أن نعذب أحداً بنوع من أنواع التعذيب دنيويا أو أُخروياً على فعل شيء أو ترك شيء أصلياً كان أو فرعياً حتى نبعث إليه رسولاًً يهدي إلى الحق ويبين الشريعة " أ هـ، مع وجوب العلم انه يجوز عقلاً على الله تعالى أن يعذب من يشاء من عبيده بذنب أو بغير ذنب مصداقاً لقوله تعالى :" لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وهُم يُسئَلُونَ " سورة الأنبياء آية (23) إلا أنه سبحانه وتعالى ببالغ حكمته وكمال عدله وبمحض فضله قد منَّ علينا بإبطال هذا الحكم العقلي بحكمٍ شرعي " ويسمى بالمستحيل العَرَضي " أى لا يعذب أحد إلا بعد إرسال الرسل.
ثانياً: قوله تعالى:" ولَولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ " سورة القصص آية (47) أي أن الحامل على إرسال الرسل تعللهم بهذا القول واحتجاجهم به.
ثالثاً:" ومَا كَانَ رَبُكُّ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى يَبعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُواْ عَلَيهِم ءَايَاتِنَا " سورة القصص آية (59) قال ابن جُزَيْ في تفسيره " التسهيل لعلوم التنـزيل " أُمُّ القرى مكة لأنها أوَّل ما خلق الله من الأرض ولأنَّ فيها بيت الله، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى بأن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أمِّ القرى فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم. أ هـ
رابعاً:" قوله تعالى:" ولَو أَنَّا أَهلَكَنـهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـتِكَ مِن قَبلِ أَن نَّذِلَّ ونَخزَى " سورة طه آية (134).
خامساً: قوله تعالى:" ومَا أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ، ذِكرَى ومَا كُنَّا ظَالِمِينَ " سورة الشعراء آية (208،209).
سادساً: قوله تعالى:" وهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمل صَالِحاً غَيرَ الَّذِى كُنَّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ " سورة فاطر آية (37).
سابعاً: قوله تعالى:" أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ بَل هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوماً مَّا أَتَـهُم مِّن نَّذِيرٍ مّن قَبلِكَ لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ " سورة السجدة آية(3)
ثامناً: قوله تعالى:" وهَذَا كِتَابَ أَنـزلنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ، أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنـزلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينِ مِن قَبلِنَا وإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِم لَغَافِلينَ، أَو تَقُولُواْ لَو أَنَّا أُنـزلَ عَلَينَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهدَى مِنهُم فَقَد جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم وهُدًى ورَحمةٌ " سورة الأنعام آية (155،156،157) والآيات في هذا الباب كثيرة جداً لمن أراد أن يتبصر فعليه بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أما ما جاء في السنة:
أولاً: ما أخرجه مسلم في كتاب المناقب ما نصه: حدَّثنا محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعاً عن الوليد قال ابن مهران حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شدَّاد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنَّ الله عزَّ وجلَّ اصطفى كِنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشاً من كِنانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " ووجه الدليل من الحديث أن الإصطفاء يشعر بالنجاة والقرأن يشهد لذلك الإصطفاء بآياتٍ كثيرة إذ أنَّ الله لا يصطفي المشركين الأنجاس، إنما يصطفي الموحدين الطاهرين فعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إصطفاه الله.
ثانياً: روى أبو نعيم في دلائل النبوة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفَّى مهذَّبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما " فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك قال تعالى يصف المشركين:" إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسُ " سورة التوبة آية(28).
ثالثاً: أخرج البخاري في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب المناقب حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " ووجه الدليل من الحديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القرون التي سبقته وقرنه الذي بعث فيه بالخيرية والمراد بالقرون أهله الذين عاشوا قبله ومعه وهم أصوله وذلك بصريح الحديث.
قال الحافظ زين الدين العراقي في مورده الهني ومولده السني:
حفظ الإلــه كرامــةً لمحمدٍ ءاباءهُ الأمجادُ صوناً لاسمهِ
تركوا السفاح فلم يصيبهم عارهُ من ءادمٍ وإلى أبيـهِ وأمـهِ
رابعاً: ما ذكره القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية قال: "روى الزهري عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت:" شهدت آمنة أمَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها ومحمد صلى الله عليه وسلم يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وقالت أبيات شعر ثم قالت كل حيٍّ ميِّت وكل جديد بال وكل كثير يفنى وأنا ميِّتة وذكري باقٍ وقد تركت خيراًَ وولدت طهراً ثم ماتت فكنَّا نسمع نوح الجنِّ عليها، أخرج الإمام أحمد وصححة الحاكم من حديث العرباض ابن سارية السلمى قال " ورؤيا أمى التى رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين " بمعنى أى يلهمن.
أفمن كان آخر كلامه هذه الحكم الدالة على سلامة فطرته ومن يبشر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كانت الجن تنوح عليه أسفاً على فراقه يُقال فيه أنَّه من أصحاب النَّار.
فصل
روى البيهقي في كتابه دلائل النبوة بسنده المتصل إلى الإمام الشافعي أنه قال: ما من معجزةٍ كانت لنبيٍ من الأنبياء إلا وكان لنبينا مثلها.
قال القرطبي في التذكرة: إنَّ فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته فلا يمتنع أن يكون إحياءُ والديه ممَّا فضَّله به وأكرمه قال: وليس إحياؤهما وإماتتهما ممتنعا عقلاً وشرعاً فقد ورد في الكتاب العزيز إحياءُ قتيل بني اسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيى الله على يديه جماعة من الموتى مثل ما روي عن الحسن بن عليَّ رضي الله عنهما قال: اتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بنَّية له في وادي كذا فانطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: " يا فلانة، أجيبي بإذن الله " فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:" إنَّ أبويك قد أسلما، فإن أحببت أن أردك عليهما ؟ قالت: لا حاجة لي فيهما وجدت الله خيرا منهما. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر شاةً مصلية سمَّمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال:" ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة " وروى هذا الحديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما وفيه:" أخبرتني هذه الذراع " رواه أبو داود فمِمَّا أكرم به الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن وهب على يده الحياة والإدراك حتى للجمادات الخالية من مقومات الحياة، انتهى كلام القرطبي بتصرف.
قلت: وروى مسلم في كتابه الفضائل عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجراً كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وكذلك كلام الشجر رواه الدارمي وحديث الذئب رواه أحمد وحديث العذق رواه أحمد أيضا والترمذي وكلام الجمل رواه أبو نعيم في الدلائل وحنين الجزع رواه البخاري وشهادة الضب رواه أبو نعيم أيضا في الدلائل وشهادة زيد بن خارجة الأنصاري بعد ما مات لنبينا صلى الله عليه وسلم بالرسالة رواه البيهقى وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة أخرجه أبو داود في الدِّيِّات وغير ذلك كثير مما يصعب تتبعه في هذه العجالة مع التنبيه أن كلام الموتى معهود ومعروف أما كلام الشجر والحجر والجمل وغير ذلك فإنه لعمري غير معهودٍ ومألوف ولله در البوصيري حيث يقول:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجر
فإن في الكف معنىً ليس في الحجر
إن كان عيسى برا الأعمـى بدعوتـه
فكـم براحتـه قـد ردَّ من بصـر
فصل
في إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم وإيمانهما به
أولا: ومما لا شك فيه بأن حديث إحيائهما ضعيف عند الحفاظ وعدم حاجتنا له بذاته للإحتجاج به على نجاتهما بعد كل ما بيَّنَّاه آنفاً ولكن لا بأس أن نورده زيادةً للفائدة وطمأنةً للقلوب ولمعرفة طريقة العمل مع مثل هذه الأحاديث قبل الإسراع إلى الاعتراض لأنَّ كل ذلك غير ممدوحٍ عند أهل النظر فقد روى الطبراني بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نـزل الحجون حزيناً أقام به ما شاء الله ثم رجع مسروراً قال:" سألت ربي عز وجل فأحيى لي أمي فآمنت بي ثم ردَّها " وروي من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به. أورده السهيلي و الخطيب البغدادي وقد مرَّ معنا في الفصل السابق قول القرطبي إن إحياءهما ليس ممتنعا لا شرعا ولا عقلا.
قلت: بل الشواهد التي تواترت في إحياء الأموات وكلام الجمادات معجزة وكرامة له صلى الله عليه وسلم مع خلو الجمادات من مقومات الحياة وما كان من إحياء قتيل بني إسرائيل ونفخ الروح في الطير لسيدنا عيسى عليه السلام وهي من الطين فتصبح طائراً حقيقياً أفبعد هذا يمتنع إحياء أبويه للإيمان به صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك زيادةً في إكرامه وتفضيله ومعجزةً من معجزاته التي أيَّده الله بها وأظهرها على يديه صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام فخر الدين الرازي: إن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " رواه أبو نعيم في الدلائل وقد قال تعالى:" إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ" سورة التوبة أية (28) فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركاً فكيف بأبائه انتهى كلام الرازي، وقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي حيث قال:
حبا الله النبي مزيد فضلٍ على فضلٍ وكـان به رؤوفا
فأحيى أمـَّه وكـذا أبـاه لإيمانٍ بـه فضـلاً لطيفـا
فسلـم فالقديـم بـذا قديرٌ وإن كان الحديث به ضعيفا
فاعلم أخي المؤمن إنَّ الله جعل نبيَّه صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين حتى لعمَّيه أبي طالب وأبي لهب اللذين سمعا بدعوته وصمَّما على الكفر به حتى ماتا فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر عنده عمه أبو طالب فقال:" لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاحٍ من نار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه " وعن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيءٍ فإنَّه قد كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال: " نعم، هو في ضحضاحٍ من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "رواه البخاري في المناقب ومسلم في باب الإيمان وعن العباس أيضا أنه رأى أبا لهب في النوم بعد وفاته فسأله عن حاله فقال:" لم ألقَ خيراً بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة وإنه ليخفف عليَّ في كل يوم اثنين " رواه البخاري فهذه السنة النبوية جاءت تخبر أن الله تعالى جعل الأول من أهون أهل النار عذابا مع أنه مخلدٌ فيها وأنَّ الثاني يخفَّف عنه العذاب كل يوم اثنين مع أنه مخلد فيها مع أنه هناك كلام عند أهل الأصول على هذا النوع من الأحاديث ولكن ليس هذا محله. فكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم رحمة لوالديه وقد ماتا على الفطرة مع أنهما من أهل الفترة كما يعتقد جمهور الأمة قال الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه العلماء مراتب والأقوال مراتب فلا عبرة بقول القائل بلا بيان ولا أدلة ولا برهان وإلا لصحت دعوة كل مدَّعٍ وأنكر وجود الشمس في رابعةِ النهار، فنرجوا أن نكون وُفِّقنا في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار الحق ودحض الباطل قاطعين الطريق على كل لجَّاج ومحجاج فقد قال الامام السيوطي رحمه الله:
هذه أدلة لو تفـرد بعضها لكفــى فكيـف بهـــا إذا تتألـف
و بحسب من لم يرتضيها صمته أدبا ولكن أين من هـو منصـف
صـلى الإلـه علـى النبي محمـد ما جدد الديـن الحنيف محنف
خاتمة
أيها القارئ المنصف الكريم نرجوا أن تقرأ رسالتنا هذه بتمعنٍ وتبصرٍ وإنصافٍ وروحٍ عاليةٍ، فوالله ما كتبناها إلا محبة للخير وعملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم" رواه الحاكم عن ابن مسعود.
وهل يوجد شيء أهم من الدفاع عن رسولنا الكريم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده" رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم في كتاب الإيمان، ولقد أوصانا علماؤنا ولا يزالون يوصوننا بالتثبت في النقل، لأنَّ العلم أمانة وعدم التثبت فيه غدرٌ وخيانة، وقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بسنده المتصل لابن سيرين أنه قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" فلا تغتر أخي المؤمن بمن يروَّجون خبر كفر أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرمون زيارة قبره الشريف ويعتبرون ذلك شرك، والمنصف منهم يعتبره سفر معصية وعلى قولهم هذا لا يسلم من الشرك أو المعاصي جميع علماء المسلمين زياده على عامتهم، لأن نجاة والدي المصطفى وزيارة قبره الشريف هو ما عليه علماء المسلمين من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة بعيداً عن أي تعصب وتطرفٍ، وذلك بما تناقلوه عن الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح وغيرهم من شموس هذه الأمة وأعلامها الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم شيئا " رواه احمد والشيخان عن معاوية قال الامام أحمد رضى الله عنه إذا لم يكونوا أهل العلم فلا أدرى من هم فلا تغتر واتبع ما كان من الأثر وما عليه أهل الفهم من أصحاب الحل والعقد وأتقياء البشر وتمسك بأصحاب هذه المدارس واهجر كل من قوله دارس وتثبت بالأساس كما قال الإمام المشهور بالرَّواس:
إتبع أهل الهدى على علـم فأهل الهدى مثل النجوم الزواهر
و إن أخا علم به الزيغ كامن أضر على الاسلام من ألف كافر
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام وما لها علينا من الفضل والجود والكرم والإحسان الحمد لله العليم المنَّان الشكر لله العظيم السلطان اللهم اختم لنا بخيرك يا رحمن اللهم اختم لنا ولوالدينا ولجميع المؤمنين بالسعادة والغفران وشفع فينا سيد ولد عدنان لدفاعنا عنه وأمّه وآبائه الكرام.
قاله بلسانه وأعاد صياغته ببنانه العبد الفقير إلى ربه المقصر بحق دينه ووطنه وأشياخه وأهله أبو الفضل أحمد بن منصور قرطام المالكي الحنفي الشافعي الحنبلى الأشعري الماتريدي الأيوبي الأب الحسيني الأم كان الله له ولمشايخه ولوالديه ولجميع المؤمنين بمنه وفضله آمين.
غزة 14 ربيع الثاني على الساعة الثانية بعد الظهر
من يوم الثلاثاء الموافق له 25/6/2002 رومي.
ولله در القائل
وما من كاتب إلا سيفنى
ويبقى الدهـرَ ما كتبتْ يـداهُ
فلا تكتبْ بكفِّك غيرَ شيءٍ
يسركَ في القيامـة أن تـراهُ
أجلُّ ما كسبتْ يد الفتى قلمُ
وخيرُ ما جمعت يدُ الفتى كُتُبُ
إظهار الحق بوجوب الدفاع عن سيد الخلق
بقلم
خادم العلم الشريف أبي الفضل
أحمد بن منصـور بن اسماعيل قرطـام
الفلســطيني المالكي الأشعري
كان الله له ولوالديه ولعامة المسلمين بمنه وكرمه
آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفانا للإسلام وجعلنا من أتباع خير الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، القائل فيما رواه عن ربه في الحديث القدسي:"من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" أخرجه البخاري في كتاب الرقائق باب (38).
والقائل كذلك:" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب (.
ومن أَجَلِّ وأَوْكَد مظاهر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفاع عنه وعدم إذايته في أبويه وآله وصحبه؛ لأنَّ في إذايتهم إذاية له صلى الله عليه وسلم، وفي إذايته إذاية لله تعالى.
ومما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمس من شرف نبوته وشرف نسبه القول بدخول أبويه الشريفين جهنم والعياذ بالله قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يُؤذُونَ اللهَ ,رَسُولَهُ لَعنَهُمُ اللهُ فِى الدُّنيَا ,الأَخِرَةِ ,أَعَدَّ لَهُم عَذَاباً مُّهِيناً " سورة الأحزاب آية (57) ,لسائل أن يسأل ما الفائدة من طرح هذه المسالة أو التكلم فيها أصلا لما فيها من خطر إفساد عقيدة العوام وإثارة الاختلاف في صفوف المسلمين ؟ في حين أنها مسألة لم يكلفنا الله بها ولم يتعبدنا بها فلا يضرنا جهلها ولا ينفعنا علمها لأنه لو مات أي إنسان وهو لا يعلم هذه المسألة لا ضير عليه قطعا باتفاق من يعتد به من أكابر علماء أهل السنة والجماعة كالإمام أبي حنيفة ونصه في ذلك صريح في كتابه الفقه الأكبر والإمام مالك والشافعي وأحمد رضى الله عنهم أجمعين. أما من خالفهم من الخارجين عن الصف القائلين بعذاب أبوى النبي صلى الله عليه وسلم فيروجون فتنتهم لمرض في قلوبهم قال تعالى:" فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلَهُ " سورة آل عمران آية (7) وعمدتهم في ذلك حديثين من الآحاد وهما:
1) حديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي"
2) ما رواه مسلم أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي قال: في النار فلما قضى دعاه فقال:" إن أبي وأباك في النار "
والمتأمل في هذين الحديثين يستطيع أن يتبين علتهما وذلك لمعارضتهما لصريح القران كقوله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء آية (15) ولقوله تعالى:" ذَلِكَ أَن لَّم يَكُن رَّبُّكَ مُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا غَافِلُونَ " سورة الأنعام آية (131) والقوم الذين بعث فيهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين منهم أبويه لم يأتهم نذير قبله لصريح قوله تعالى:" وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ " سورة سبأ آية (44) ولقوله تعالى:" لِتُنذِرَ قَوماً مَّا أَتَـهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبلِكَ لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ " سورة السجدة آية (3) فمعارضة هذين الحديثين المخالفين لفظاً ومعناً لصريح القرآن الذي هو قطعي الثبوت مع عدم إمكانية الجمع بينهما سقط الاحتجاج بهما وتمسكنا بالقرآن كما هو مقرر وحسب قواعد الشريعة قال الإمام النووي في شرح المهذب ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعا وجب ترك ظاهره والقاعدة عند علماء أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتُريدية بل وجميع العقلاء أن خبر الآحاد متى عارض الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع المعتبر لفظا ومعنى مع عدم امكانية الجمع بحال سقط الاستدلال به، وكذلك اتفقوا على العمل به في العمليات دون الاعتقاديات، بمعنى أن مسائل العقائد مبنية على القطعيات التي تفيد العلم اليقيني والتي يكفر منكرها. بخلاف الآحاد الذي لا يفيد إلا الظن وبالتالي ما ينبني عليه من الاحكام لأن غالبه محل خلاف بين العلماء إلا ما أجمعوا عليه فيرتفع فيه الخلاف لأجل الإجماع وليس لذات الدليل وهذه قاعدة قل من يعلمها ممن ينتسبون للعلم اليوم فمن باب الأولى عامة الناس، وهذا لا يخالف ما قلناه سابقا من أن مسألة نجاة أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينها ليست من المسائل العقائدية. ولكن من العقيدة التي يجب على كل مؤمن أن يعتقدها ولا يجوز له جهلها فضلاً عن إنكارها هي أن أهل الفترة ناجون وإن بدلوا وغيروا بدليل النصوص القرآنية القطعية السابقة الذكر وأبوي النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة بلا خلاف.
فصل
قال مولانا المنعم الفقيه الأصولي المحدث المفسر النحرير واللغوي الكبير علامة المغرب بل الدنيا سيدي عبد الله بن الصديق الغماري عليه من الله رحمة الباري وطيب الله ثراه وجعلنا على خطاه في كتابه الموسم " بالخواطر الدينية " أهل الفترة هم الذين عاشوا في زمن لم يكن فيه نبي ولا رسول بعث اليهم، كالعرب الذين عاشوا في الفترة والتي بين سيدنا اسماعيل ونبينا عليهما السلام وكذلك أهل الكتاب الذين عاشوا في الفترة التي بين سيدنا عيسى ونبينا عليهما السلام والحكم فيهم عند الجمهور أنهم ناجون ولو غيروا وبدلوا لقوله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء آية (15) وغيرها من الأيات والتي مر بعضٌ منها، وأجابوا عن تعذيب بعض أهل الفترة بأنها آحاد لا تقوى على معارضة القرأن زيادة على أنها تحتمل التأويل أما من أشرك من أهل الفترة وغير بابتداع أمور شركية مثل عمرو بن لحي وهو أول من أدخل الأصنام إلى مكة فيعذب لورود نص فيه بعينه، ولا يُعترض علينا بالقاعدة التي تقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن ذلك يتعارض مع صريح القرأن فتعين أن يكون حكما خارج على غير قياس. أما بعد البعثة المحمدية التي عمَّت غالب أهل الأرض جميعا فلا يوجد أهل فترة ولكن قد يعترض علينا بوجود من لم تبلغه الدعوة وهو اعتراض قد يكون صحيح فلو افترضنا وجود شخص ما في بعض مجاهل القارة الافريقية أو غابات أمريكا مثلا لم يسمع بالإسلام ولا عرف شيئا عن توحيد الله تعالى ولم يسمع بأن هناك نبي اسمه محمد صلى الله عليه وسلم وعاش بين الغابات فإنه ناج بلا شك حتى ولو اعتنق بعض الديانات كالنصرانية مثلا ذلك لأن بلوغ الدعوة شرط في توجه الخطاب التكليفى للشخص فحيث لم تبلغه الدعوة بدون تقصير منه لا يكون مكلفا. وأما الذين ولدوا بين أبوين يهوديين أو نصرانيين وبلغتهم دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأي وجه من الوجوه فهم كفار بلا نـزاع بحيث لو خير أحدهم بين الإسلام والموت لاختار الموت على الإسلام. انتهى بتصرف.
فصل
أما ما جاء في قوله تعالى " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن يَستَغفِرُواْ لِلمُشرِكِينَ ولَو كَانُواْ أُوْلِي قُربَى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحَابُ الجحِيمِ" سورة التوبة آيه (113).
فلا يحتج به على أهل الفترة وذلك لأن هذه الأية نـزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تتعلق بوالديه لا من قريب ولا من بعيد ولا تصريحا ولا تلويحا لما هو مقرر ومعلوم ومشهور وذلك لأن أبا طالب أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأبى أن يسلم، أما أبواه فلم يدركا البعثة فأين هذا من هذا....؟ ويقوي ذلك ما رواه أبو داود والبيهقي من أن سيدنا على كرم الله وجهه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" إن عمك الشيخ الضال قد مات فقال: إذهب فواره وفي رواية:" إن عمك الشيخ الكافر.
فصل
يجب أن يعلم بأن القاعدة العامة المتفق عليها في كيفية إقرار الحكم الشرعي أنه لا يؤخذ من دليل واحد غالبا بل هو نتيجة لمجموعة من الضوابط المشتركة بين الايات والأحاديث التي تبنى على بعض القواعد الأصولية والحديثية والعقائدية واللغوية التي لا غنى عنها لفهم معاني النصوص التي أُستُقرئت وضُبِطَت الشريعة الغراء من خلالها قبل النظر واصدار الحكم الشرعي ونحن بحمد الله وتوفيقه نبين بعض هذه القواعد التى لا بد منها لفهم هذين الحديثين على وفق ما اتفق عليه كبار أهل الحل والعقد من نقاد علماء أهل السنة والجماعة من حفاظ وأصوليين وغيرهم أن من أسباب رد الحديث:
1) مخالفته لصريح القرآن لفظاُ ومعنى مع عدم امكانية تأويله ليوافق القرآن بلا تكلف.
2) مخالفته لصريح العقل السليم لأن أفعال الله تعالى لا تخلو عن حكمة وإن كنا لا ندركها غالبا ولأن العقل شاهد من شواهد الشرع فالشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول.
3) أنه لا يستدل في العقائد إلا بالمتواتر أو المشهور خلافا لأبي حنيفة رضى الله عنه الذى يرى أنه يجوز الاستدلال بخبر الأحاد في العقائد بشرط أن لا يكون له معارض من القرآن أو من السنة المتواترة أو المشهورة.
وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لا عنده رضى الله عنه ولا عند غيره من باب الأولى لأن القاعدة عنده أن الظني لا يقوى على معارضة القطعي والقرآن عنده قطعي الثبوت ويمثل له بهذه الأية:" ومَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء أية (15) ويؤيد ذلك ما قاله الأصوليون من أن " عدم الاستفصال يؤدى إلى تعلق الحكم في عموم المقال " وهذه الأية تدخل تحت هذه القاعدة " وكذلك قولهم أيضا " الأعراض في موضع البيان يفيد الحصر " وهو يتطابق مع هذه الأية، أن كل من لم يأته رسول لا يعذب إلا ما خرج على غير قياس هذا في كيفية العمل إذا ما عارض الحديث القرأن أما إذا ما عارض الحديث الحديث فكلامهم في هذا الباب كثير ينحصر في ثلاثه قواعد عند الأصوليين والمحدثين:
1) إذا ما ثبت حديثان صحيحان سنداً ومتناً متعارضان في اللفظ متفقان في المعنى يجب الجمع بينهما عملا بقاعدة " ما أمكن الجمع جمع "
2) إذا كان الحديث الأول صحيح والثاني ضعيف يقدم الصحيح على الضعيف باجماع أهل هذا الفن.
3) إذا كان الحديثان صحيحان ومختلفان لفظا ومعنى بمعنى لا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه الصحيحة فينظر الى ما هو قديم وما هو جديد فيكون القديم منسوخ والجديد ناسخ لاستحالة الجمع بينهما مع الجزم بثبوتهما والمعلوم أن السنة لا تتعارض فتعين النسخ وكان لزاما معرفة التاريخ فإن لم يعلم القديم من الجديد وجب إسقاط العمل بكلا الحديثين وتعين البحث عن دليل أخر لاجتناب الترجيح بغير مرجح وهو حرام... حرام.... حرام.... بإتفاق الجميع.
فصل
في كيفية نقد هذين الحديثين كل على حده
أ. حديث " إستأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي "و في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بكى وأبكى من حوله فإن هذا الحديث لا يصح الاستدلال به على أن والدته صلى الله عليه وسلم في النار لعدة أمور:-
1) أن هذا الحديث يعارض معارضة صريحة قول الله تعالى:" وَمَا كُنَا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الاسراء أية (15) وقوله تعالى:" وَمَا أَرسَلنَا إِلَيهِم قَبلَكَ مِن نَّذِيرٍ " سورة سبأ آية (44).
2) أن بكائه صلى الله عليه وسلم على أمه لا يدل على أنها من أهل النار بأي وجه من الوجوه بدليل أنه بكى على إبنه إبراهيم كما في الصحيحين إذ قال:" تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون".
3) إن الله تعالى أذن له بزيارة قبرها يدل على أنها مؤمنة وليست كافرة من أهل النار وإلا لتعارض صدر الحديث مع عجزه ناهيك أيضا أن الله تعالى قد نهاه أن يقوم على قبور الكفار والمنافقين بقوله عز من قائل:" ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنهُم مَّاتَ أَبَداً ولا تَقُم عَلَى قَبرِهِ إِنَّهُم كَفَرُواْ بِاللهِ ورَسُولِهِ ومَاتُواْ وهُم فَاسِقُونَ " آية (84) من سورة التوبة وحاشى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف أمر الله تعالى ومن يظن ذلك فليس له نصيب من الإيمان في شيء.
ب. حديث أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار " فلما قفى دعاه فقال:" إن أبي وأباك في النار " الحديث فمما يجب أن يعلم أن لهذا الحديث ثلاثة طرق:-
1) السند الأول عن طريق حماد بن سلمة عن ثابت وهي التي جاء فيها: إن أبي وأباك في النار.
2) السند الثاني عن طريق معمر عن ثابت وهي خالية من ذكر " إن أبي وأباك في النار".
3) السند الثالث عن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص وهي خالية أيضا من ذكر إن أبي وأباك في النار غير أنها تنتهي بقوله صلى الله عليه وسلم:" حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار" فالطريقه الأولى في سندها ثابت وحماد بن سلمة. أما ثابت فهو عند بعضهم ثقة ولكن ذكره ابن عدي في الضعفاء وعلل الحديث فقال:" إنه وقع في أحاديثه ما ينكر، وهذا الحديث منها وأمَّا حماد فقال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة " فتح الباري": حماد بن سلمة بن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات إلا أنه ساء حفظه في الآخر. وقال السيوطي عن حماد بن سلمة في كتابه " مسالك الحنفا في نجاة والدي المصطفى " إن حماد تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه وكان حماد في آخر حياته لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئا ولا خرَّج له مسلم في اصول الدين إلا من روايته عن ثابت. قال الحاكم في المدخل " ما خرج مسلم لحماد إلا من حديثه عن ثابت. انتهى.
أما السندان الثاني والثالث ففي سند الرواية الثانية معمر عن ثابت عن أنس عوضاً عن حماد عن ثابت والرواية الثالثة جاءت بالسند الأتي فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:" أين أبي ؟ قال:" في النار" قال:" فأين أبوك" قال:" حيث ما مررت بقبر كافر فبشره بالنار " ويُلاحظ أن السند الأول ذكر فيه حماد عن ثابت والسند الثاني ذكر فيه معمر عن ثابت ومن المعروف أن معمرا أثبت من حماد بدليل أن حماداً تُكلِّم في حفظه كما سلف ولم يتكلم أحد في معمر. قال السيوطي في نفس المرجع المذكور وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا اسْتُنكر شيءٌ من حديثه واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت أي فتكون روايته أوثق وأثبت وأقرب الى الصحة. وأما سند الرواية الثالثه فقد قال السيوطي في نفس المرجع " وهذا إسناد على شرط الشيخين فتعين المصير اليه والاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره " قلت وذلك لصحة سنده وقوة ودقة متنه وخلوه من الشذوذ والعلة لا سيما عدم معارضته لصريح القرآن.
فصل
لو فرضنا أن الحديث بالطريقة الأولى ثبت وصح فيجب علينا أن نأوله بما يقبل التأويل، وذلك لوجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزم تخريج الحديث عن ظاهره ولما ذكرناه سابقاً أنه خبر أحاد يقبل الأحتمال والتأويل والقاعدة تقول:" أنَّ ما دخله الإحتمال سقط به الاستدلال"، زيادة على مخالفته لصريح القرآن وكما أشرنا اليه سابقا إلا أن بعض علمائنا لم يذهبوا إلى إسقاطه وأولوه بما يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال:" إن أبي وأباك في النار " قصد بذلك عمه أبو طالب لأنه هو الذي حضر البعثة ولأن في اللغة يطلق الأب ويراد به العم ودليل ذلك من القرأن قوله تعالى:" أَم كُنتُم شُهَدَاءَ إِذ حَضَرَ يَعقُوبَ المَوتُ إِذ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعبُدُونَ مِن بَعدِى قالوا نَعبُدُ إِلَـهَكَ وإِلَـَه ءَابَائِكَ إِبرَاهِيمِ وإِسمَاعِيلَ وإِسحَـقَ إِلَـهاً وَاحِداً ونَحنُ لَهُ مُسلِمُونَ " سورة البقرة أية (133) فإسماعيل ليس أبا ليعقوب فهو عمه وسماه الله أبا له.
قال ابن الجوزي في كتابه:" نـزهة الأعين النواظر" وذكر أهل التفسير أن الأب في القران على أربعة أوجه:
أحدهما: الأب الأدنى ومنه قوله تعالى: " وَأُمِهِ وَأَبِيهِ " سورة عبس آية (35) وقوله:" ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ " سورة النساء آيه (11).
ثانيهما: الجد ومنه قوله تعالى:" مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيم " سورة الحج آية (78).
والثالث: العم ومنه قوله تعالى:" نَعبُدُ إِلَـهَكَ وإِلَـَه ءَابَائِكَ إِبرَاهِيمِ وإِسمَاعِيلَ " سورة البقرة آية (133).
و الرابع: الخالة ومنه قوله تعالى:" وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ "سورة يوسف آية (100).
و من الوجه الثالث ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:" إحفظوني في العباس فإنه بقية أبائي "مع أنه عمه وهذا الحديث " إن أبي وأباك في النار " مردود إن قلنا أن قوله فيه أبي " هو أبوه عبد الله بن عبد المطلب وذلك لأن أباه عبد الله من أهل الفترة لأنه لم يدرك بعثته صلى الله عليه وسلم قطعا ولأنه من قوم لم يأتهم رسول بدليل الأيات السابقه ولأن لفظة الأب في اللغة تحتمل الجد والعم والأب الأدنى وحَملُها على واحد بعينه تحتاج الى قرينة والقرينة الظاهرة في الحديث تدل على العم وحملها على أب النبي صلى الله عليه وسلم فيه تهكم وهو في شرعنا ممنوع وهذا مما فهمه الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم عندما بوب له " أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين" والمراد بذلك أبو طالب الذي أدرك بعثته صلى الله عليه وسلم وأبى أن ينطق بالشهادة ومات على الكفر كما ذكرنا سابقاً من حديث علي كرَّم الله وجهه والإجماع منعقد على وجوب تكفير الأبي الممتنع وأنه خالد مخلد في نار جهنم قال سيدي أبو عبد الله الفاسى المالكي في كتابه مراصد المعتمد في مقاصد المعتقد:
و من يكن ذا النطق منه ما اتفق فإن يكن عجـزا يكن كمن نطق
و إن يكـن ذلك عـن إبــاء فحكمه الكفـر بـلا امتــراء
و إن يكن لغفلـة فكـالإبــا وذا لسنـةِ عيـاض نسبــا
و قيـلَ كالنطـقِ وللجمـهـورِ نسبَ والشيـخ أبـي منصـور
و هذا ينطبق على أبي طالب فقد عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا اله الا الله فأبى رواه البخاري.
فصل
مما يستدل به على نجاة أبوي المصطفي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة
أولاً: قوله تعالى:" ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولاً " سورة الإسراء أية (15) فالآية عامة وصريحة في أن الله تعالى لا يعذِّب أحداً حتى يرسل الرسل قال الألوسي صاحب روح المعاني في تفسيره عند شرح هذه الآية:" وما صح وما استقام بل استحال في السنة الإلهية المبنية على الحكم البالغة أو في قضائنا السابق أن نعذب أحداً بنوع من أنواع التعذيب دنيويا أو أُخروياً على فعل شيء أو ترك شيء أصلياً كان أو فرعياً حتى نبعث إليه رسولاًً يهدي إلى الحق ويبين الشريعة " أ هـ، مع وجوب العلم انه يجوز عقلاً على الله تعالى أن يعذب من يشاء من عبيده بذنب أو بغير ذنب مصداقاً لقوله تعالى :" لا يُسئَلُ عَمَّا يَفعَلُ وهُم يُسئَلُونَ " سورة الأنبياء آية (23) إلا أنه سبحانه وتعالى ببالغ حكمته وكمال عدله وبمحض فضله قد منَّ علينا بإبطال هذا الحكم العقلي بحكمٍ شرعي " ويسمى بالمستحيل العَرَضي " أى لا يعذب أحد إلا بعد إرسال الرسل.
ثانياً: قوله تعالى:" ولَولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ بِمَا قَدَّمَت أَيدِيهِم فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ " سورة القصص آية (47) أي أن الحامل على إرسال الرسل تعللهم بهذا القول واحتجاجهم به.
ثالثاً:" ومَا كَانَ رَبُكُّ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى يَبعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُواْ عَلَيهِم ءَايَاتِنَا " سورة القصص آية (59) قال ابن جُزَيْ في تفسيره " التسهيل لعلوم التنـزيل " أُمُّ القرى مكة لأنها أوَّل ما خلق الله من الأرض ولأنَّ فيها بيت الله، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى بأن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أمِّ القرى فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم وإقامة الحجة عليهم. أ هـ
رابعاً:" قوله تعالى:" ولَو أَنَّا أَهلَكَنـهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَولا أَرسَلتَ إِلَينَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَـتِكَ مِن قَبلِ أَن نَّذِلَّ ونَخزَى " سورة طه آية (134).
خامساً: قوله تعالى:" ومَا أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ، ذِكرَى ومَا كُنَّا ظَالِمِينَ " سورة الشعراء آية (208،209).
سادساً: قوله تعالى:" وهُم يَصطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخرِجنَا نَعمل صَالِحاً غَيرَ الَّذِى كُنَّا نَعمَلُ أَوَلَم نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ " سورة فاطر آية (37).
سابعاً: قوله تعالى:" أَم يَقُولُونَ افتَرَاهُ بَل هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوماً مَّا أَتَـهُم مِّن نَّذِيرٍ مّن قَبلِكَ لَعَلَّهُم يَهتَدُونَ " سورة السجدة آية(3)
ثامناً: قوله تعالى:" وهَذَا كِتَابَ أَنـزلنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُواْ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ، أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنـزلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَينِ مِن قَبلِنَا وإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِم لَغَافِلينَ، أَو تَقُولُواْ لَو أَنَّا أُنـزلَ عَلَينَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهدَى مِنهُم فَقَد جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُم وهُدًى ورَحمةٌ " سورة الأنعام آية (155،156،157) والآيات في هذا الباب كثيرة جداً لمن أراد أن يتبصر فعليه بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أما ما جاء في السنة:
أولاً: ما أخرجه مسلم في كتاب المناقب ما نصه: حدَّثنا محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعاً عن الوليد قال ابن مهران حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن أبي عمار شدَّاد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنَّ الله عزَّ وجلَّ اصطفى كِنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشاً من كِنانة واصطفى من قريشٍ بني هاشم واصطفاني من بني هاشم " ووجه الدليل من الحديث أن الإصطفاء يشعر بالنجاة والقرأن يشهد لذلك الإصطفاء بآياتٍ كثيرة إذ أنَّ الله لا يصطفي المشركين الأنجاس، إنما يصطفي الموحدين الطاهرين فعبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إصطفاه الله.
ثانياً: روى أبو نعيم في دلائل النبوة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفَّى مهذَّبا لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما " فوصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك قال تعالى يصف المشركين:" إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسُ " سورة التوبة آية(28).
ثالثاً: أخرج البخاري في باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب المناقب حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه " ووجه الدليل من الحديث أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القرون التي سبقته وقرنه الذي بعث فيه بالخيرية والمراد بالقرون أهله الذين عاشوا قبله ومعه وهم أصوله وذلك بصريح الحديث.
قال الحافظ زين الدين العراقي في مورده الهني ومولده السني:
حفظ الإلــه كرامــةً لمحمدٍ ءاباءهُ الأمجادُ صوناً لاسمهِ
تركوا السفاح فلم يصيبهم عارهُ من ءادمٍ وإلى أبيـهِ وأمـهِ
رابعاً: ما ذكره القسطلاني في كتابه المواهب اللدنية قال: "روى الزهري عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت:" شهدت آمنة أمَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها ومحمد صلى الله عليه وسلم يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه وقالت أبيات شعر ثم قالت كل حيٍّ ميِّت وكل جديد بال وكل كثير يفنى وأنا ميِّتة وذكري باقٍ وقد تركت خيراًَ وولدت طهراً ثم ماتت فكنَّا نسمع نوح الجنِّ عليها، أخرج الإمام أحمد وصححة الحاكم من حديث العرباض ابن سارية السلمى قال " ورؤيا أمى التى رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يرين " بمعنى أى يلهمن.
أفمن كان آخر كلامه هذه الحكم الدالة على سلامة فطرته ومن يبشر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كانت الجن تنوح عليه أسفاً على فراقه يُقال فيه أنَّه من أصحاب النَّار.
فصل
روى البيهقي في كتابه دلائل النبوة بسنده المتصل إلى الإمام الشافعي أنه قال: ما من معجزةٍ كانت لنبيٍ من الأنبياء إلا وكان لنبينا مثلها.
قال القرطبي في التذكرة: إنَّ فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته فلا يمتنع أن يكون إحياءُ والديه ممَّا فضَّله به وأكرمه قال: وليس إحياؤهما وإماتتهما ممتنعا عقلاً وشرعاً فقد ورد في الكتاب العزيز إحياءُ قتيل بني اسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيى الله على يديه جماعة من الموتى مثل ما روي عن الحسن بن عليَّ رضي الله عنهما قال: اتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه طرح بنَّية له في وادي كذا فانطلق معه الى الوادي وناداها باسمها: " يا فلانة، أجيبي بإذن الله " فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك: فقال لها:" إنَّ أبويك قد أسلما، فإن أحببت أن أردك عليهما ؟ قالت: لا حاجة لي فيهما وجدت الله خيرا منهما. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر شاةً مصلية سمَّمتها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأكل القوم فقال:" ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة " وروى هذا الحديث جابر بن عبد الله رضى الله عنهما وفيه:" أخبرتني هذه الذراع " رواه أبو داود فمِمَّا أكرم به الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن وهب على يده الحياة والإدراك حتى للجمادات الخالية من مقومات الحياة، انتهى كلام القرطبي بتصرف.
قلت: وروى مسلم في كتابه الفضائل عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لأعرف حجراً كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وكذلك كلام الشجر رواه الدارمي وحديث الذئب رواه أحمد وحديث العذق رواه أحمد أيضا والترمذي وكلام الجمل رواه أبو نعيم في الدلائل وحنين الجزع رواه البخاري وشهادة الضب رواه أبو نعيم أيضا في الدلائل وشهادة زيد بن خارجة الأنصاري بعد ما مات لنبينا صلى الله عليه وسلم بالرسالة رواه البيهقى وإخبار الذراع إياه بأنها مسمومة أخرجه أبو داود في الدِّيِّات وغير ذلك كثير مما يصعب تتبعه في هذه العجالة مع التنبيه أن كلام الموتى معهود ومعروف أما كلام الشجر والحجر والجمل وغير ذلك فإنه لعمري غير معهودٍ ومألوف ولله در البوصيري حيث يقول:
إن كان موسى سقى الأسباط من حجر
فإن في الكف معنىً ليس في الحجر
إن كان عيسى برا الأعمـى بدعوتـه
فكـم براحتـه قـد ردَّ من بصـر
فصل
في إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم وإيمانهما به
أولا: ومما لا شك فيه بأن حديث إحيائهما ضعيف عند الحفاظ وعدم حاجتنا له بذاته للإحتجاج به على نجاتهما بعد كل ما بيَّنَّاه آنفاً ولكن لا بأس أن نورده زيادةً للفائدة وطمأنةً للقلوب ولمعرفة طريقة العمل مع مثل هذه الأحاديث قبل الإسراع إلى الاعتراض لأنَّ كل ذلك غير ممدوحٍ عند أهل النظر فقد روى الطبراني بسنده عن عائشة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نـزل الحجون حزيناً أقام به ما شاء الله ثم رجع مسروراً قال:" سألت ربي عز وجل فأحيى لي أمي فآمنت بي ثم ردَّها " وروي من حديث عائشة أيضا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به. أورده السهيلي و الخطيب البغدادي وقد مرَّ معنا في الفصل السابق قول القرطبي إن إحياءهما ليس ممتنعا لا شرعا ولا عقلا.
قلت: بل الشواهد التي تواترت في إحياء الأموات وكلام الجمادات معجزة وكرامة له صلى الله عليه وسلم مع خلو الجمادات من مقومات الحياة وما كان من إحياء قتيل بني إسرائيل ونفخ الروح في الطير لسيدنا عيسى عليه السلام وهي من الطين فتصبح طائراً حقيقياً أفبعد هذا يمتنع إحياء أبويه للإيمان به صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك زيادةً في إكرامه وتفضيله ومعجزةً من معجزاته التي أيَّده الله بها وأظهرها على يديه صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام فخر الدين الرازي: إن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " رواه أبو نعيم في الدلائل وقد قال تعالى:" إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ" سورة التوبة أية (28) فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركاً فكيف بأبائه انتهى كلام الرازي، وقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي حيث قال:
حبا الله النبي مزيد فضلٍ على فضلٍ وكـان به رؤوفا
فأحيى أمـَّه وكـذا أبـاه لإيمانٍ بـه فضـلاً لطيفـا
فسلـم فالقديـم بـذا قديرٌ وإن كان الحديث به ضعيفا
فاعلم أخي المؤمن إنَّ الله جعل نبيَّه صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين حتى لعمَّيه أبي طالب وأبي لهب اللذين سمعا بدعوته وصمَّما على الكفر به حتى ماتا فقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذُكِر عنده عمه أبو طالب فقال:" لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاحٍ من نار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه " وعن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيءٍ فإنَّه قد كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال: " نعم، هو في ضحضاحٍ من النار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار "رواه البخاري في المناقب ومسلم في باب الإيمان وعن العباس أيضا أنه رأى أبا لهب في النوم بعد وفاته فسأله عن حاله فقال:" لم ألقَ خيراً بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة وإنه ليخفف عليَّ في كل يوم اثنين " رواه البخاري فهذه السنة النبوية جاءت تخبر أن الله تعالى جعل الأول من أهون أهل النار عذابا مع أنه مخلدٌ فيها وأنَّ الثاني يخفَّف عنه العذاب كل يوم اثنين مع أنه مخلد فيها مع أنه هناك كلام عند أهل الأصول على هذا النوع من الأحاديث ولكن ليس هذا محله. فكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم رحمة لوالديه وقد ماتا على الفطرة مع أنهما من أهل الفترة كما يعتقد جمهور الأمة قال الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه العلماء مراتب والأقوال مراتب فلا عبرة بقول القائل بلا بيان ولا أدلة ولا برهان وإلا لصحت دعوة كل مدَّعٍ وأنكر وجود الشمس في رابعةِ النهار، فنرجوا أن نكون وُفِّقنا في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار الحق ودحض الباطل قاطعين الطريق على كل لجَّاج ومحجاج فقد قال الامام السيوطي رحمه الله:
هذه أدلة لو تفـرد بعضها لكفــى فكيـف بهـــا إذا تتألـف
و بحسب من لم يرتضيها صمته أدبا ولكن أين من هـو منصـف
صـلى الإلـه علـى النبي محمـد ما جدد الديـن الحنيف محنف
خاتمة
أيها القارئ المنصف الكريم نرجوا أن تقرأ رسالتنا هذه بتمعنٍ وتبصرٍ وإنصافٍ وروحٍ عاليةٍ، فوالله ما كتبناها إلا محبة للخير وعملاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم" رواه الحاكم عن ابن مسعود.
وهل يوجد شيء أهم من الدفاع عن رسولنا الكريم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده" رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم في كتاب الإيمان، ولقد أوصانا علماؤنا ولا يزالون يوصوننا بالتثبت في النقل، لأنَّ العلم أمانة وعدم التثبت فيه غدرٌ وخيانة، وقد روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بسنده المتصل لابن سيرين أنه قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" فلا تغتر أخي المؤمن بمن يروَّجون خبر كفر أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم ويحرمون زيارة قبره الشريف ويعتبرون ذلك شرك، والمنصف منهم يعتبره سفر معصية وعلى قولهم هذا لا يسلم من الشرك أو المعاصي جميع علماء المسلمين زياده على عامتهم، لأن نجاة والدي المصطفى وزيارة قبره الشريف هو ما عليه علماء المسلمين من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة بعيداً عن أي تعصب وتطرفٍ، وذلك بما تناقلوه عن الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح وغيرهم من شموس هذه الأمة وأعلامها الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم شيئا " رواه احمد والشيخان عن معاوية قال الامام أحمد رضى الله عنه إذا لم يكونوا أهل العلم فلا أدرى من هم فلا تغتر واتبع ما كان من الأثر وما عليه أهل الفهم من أصحاب الحل والعقد وأتقياء البشر وتمسك بأصحاب هذه المدارس واهجر كل من قوله دارس وتثبت بالأساس كما قال الإمام المشهور بالرَّواس:
إتبع أهل الهدى على علـم فأهل الهدى مثل النجوم الزواهر
و إن أخا علم به الزيغ كامن أضر على الاسلام من ألف كافر
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام وما لها علينا من الفضل والجود والكرم والإحسان الحمد لله العليم المنَّان الشكر لله العظيم السلطان اللهم اختم لنا بخيرك يا رحمن اللهم اختم لنا ولوالدينا ولجميع المؤمنين بالسعادة والغفران وشفع فينا سيد ولد عدنان لدفاعنا عنه وأمّه وآبائه الكرام.
قاله بلسانه وأعاد صياغته ببنانه العبد الفقير إلى ربه المقصر بحق دينه ووطنه وأشياخه وأهله أبو الفضل أحمد بن منصور قرطام المالكي الحنفي الشافعي الحنبلى الأشعري الماتريدي الأيوبي الأب الحسيني الأم كان الله له ولمشايخه ولوالديه ولجميع المؤمنين بمنه وفضله آمين.
غزة 14 ربيع الثاني على الساعة الثانية بعد الظهر
من يوم الثلاثاء الموافق له 25/6/2002 رومي.
ولله در القائل
وما من كاتب إلا سيفنى
ويبقى الدهـرَ ما كتبتْ يـداهُ
فلا تكتبْ بكفِّك غيرَ شيءٍ
يسركَ في القيامـة أن تـراهُ
أجلُّ ما كسبتْ يد الفتى قلمُ
وخيرُ ما جمعت يدُ الفتى كُتُبُ