س: ما الرد الشرعي على من حرم قيام رمضان بأكثر من إحدى عشر ركعة واحتجَّ لذلك بقول عائشة رضي الله عنها :" ما كان يزيد في رمضان و لا في غيره على إحدى عشرة ركعة" رواه البخاري
الجواب:
ليس في ذلك حجة له لأن كلام السيدة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذا محمول على أن ذلك بحسب ما رأته، لأنه صح حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك" رواه ابن حبان وابن المنذر والحاكم والبيهقي من طريق عراكٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه، (رواه ابن المنذر في الأوسط (5/184)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/31-32).
و مما يرد عليه ما شاع وتواتر في عصر السلف أن أهل المدينة كانوا يقومون بستٍّ وثلاثين وكان أهل مكة يقومون بثلاث وعشرين وكانوا يطوفون بين كل أربع ركعات فأراد أهل المدينة أن يعوِّضوا عن الطواف الذي زاده أهل مكة أربع ركعات ولم يُنكَر عليهم ذلك بتحريم ما فعله الفريقان، وعملهم هذا مستند لما فهموه من الحديث الصحيح: " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما صلى" أخرجه البخاري في صحيحه.
و مما ينقض كلامه ما رواه الخلعيُّ من حديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : صلى في الليل ست عشرة ركعة، قال الحافظ العراقي: إسناده جيد.
و يرد عليه أيضًا بما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بركعة " فإن فيه دليلاً صريحًا على جواز قيام رمضان بأقل من إحدى عشرة ركعة وبأكثر منها بلا تحديد وذلك حجة لما قاله الشافعي:" لا حدَّ لعدد ركعات قيام رمضان وما كان أطول قيامًا أحبُّ إليَّ " نقل ذلك عنه الحافظ أبو زرعة العراقي في شرح التقريب ونقله غيره عنه.
وكذلك برواية:" إن عمر جمع الناس على قيام رمضان فكانوا يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة" كما في سنن البيهقي (2/496). لم يطعن في صحتها حافظ بل رجَّحها الحافظ ابن عبد البر.
و مما يردُّ دعواه أن الرسول ما كان يزيد من إحدى عشرة ركعة ما رواه ابن حبان في صحيحه من روايات عن صلاة النبي صلى الله عليه و سلم بالليل فقال: " عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل تسع ركعات".
وروى أيضًا عن أبي سلمة، قال: أخبرتني عائشة قالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثمان ركعات و يوتر بواحدة ثم يركع ركعتين و هو جالس" .
وروى أيضًا عن مسروق أنه دخل على عائشة فسألها عن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بالليل فقالت:" كان يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل، ثم إنه كان صلى إحدى عشرة ركعة ترك ركعتين، ثم قُبِض صلى الله عليه و سلم حين قُبض و هو يصلي من الليل تسع ركعات ءاخر صلاته من الليل و الوتر، ثم ربما جاء إلى فراشي هذا فيأتيه بلال فيؤذنِه بالصلاة".
وروى ابن حبان أيضًا عن ابن عباس أنه قال: بِتُّ عند خالتي ميمونة ورسول الله صلى الله عليه و سلم عندها تلك الليلة فتوضأ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قام يصلي ركعتين فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه فصلى في تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة، ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفخ وكان إذا نام نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج وصلى ولم يتوضأ، قال عمرو: حدثت بهذا بكير ابن الأشج فقال: حدثني كريب بذلك".
وروى ابن عباس أنه بات عند خالته ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل قال: فقمت فتوضأت ثم قمت عن يساره فجرني حتى أقامني عن يمينه، ثم صلى ثلاث عشرة ركعة قيامه فيهن سواء".
وروى عن الحسن بن سعد بن هشام أنه سأل عائشة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم باليل فقالت:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء تجوَّز بركعتين ثم ينام و عند رأسه طَهوره و سواكه فيقوم فيتسوك و يتوضأ و يصلي و يتجوَّز بركعتين، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوي بينهن في القراءة ثم يوتر بالتاسعة، و يصلي ركعتين و هو جالس، فلما أسنَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخذه اللحم (معناه ثَقُلَ عليه لحم بدنه) جعل الثمان ستًا و يوتر بالسابعة ويصلي ركعتين و هو جالس يقرأ فيهما:{ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } [ سورة الكافرون ] و { إِذَا زُلْزِلَتِ [ سورة الزلزلة ] أبو حرة اسمه واصل بن عبد الرحمن" .
و معنى:" ويصلي ركعتين وهو جالس " أي ركعتي الفجر وليستا من قيام الليل لأن الرسول كان يجعل ءاخر صلاته بلليل وترًا فلا يصلي بعد ذلك إلا ركعتي الفجر أي سنة الصبح.
وروى مسلم وغيره عن ابن عباس قال:" كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة"، وروى البخاري عن ابن عباس أيضًا قال:" كانت صلاة النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث عشرة ركعة- يعني بالليل-".
وفي هذه الروايات دليل على أن ما رواه البخاري عن عائشة من أنه ما كان يزيد في رمضان وغيره في صلاة الليل على إحدى عشرة ركعة محمول على أنها رأت ذلك منه أولاً ثم رأت منه ما يخالف ذلك، ولا يؤخذ من رواية البخاري أنه لم يصل قطّ أكثر من إحدى عشرة ركعة في قيام الليل كما زعم بعض المشوشين.
فإن قال قائل: هذه الأحاديث التي ذُكر فيها أن الرسول زاد على إحدى عشرة ركعة معارضة لحديث عائشة الذي أخرجه البخاري الذي فيه أن الرسول ما زاد في صلاة الليل في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فما خالفه فهو ضعيف فيكون الرَّاجح وتكون تلك الروايات مرجوحةً لا يحتجُّ بها.
قلنا: والتّرجيح لا يصار إليه ما أمكن الجمع بين الروايتين وهنا الجمع ممكن سهل وذلك بأن يقال إن عائشة لما حدَّثت ذلك الحديث لم يكن لها اطلاع على غير ذلك القدر، لم تشاهد النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى أكثر من إحدى عشرة ركعة، ولا يمنع ذلك أن يكون غيرها كابن عباس شاهد منه ما يزيد على ذلك، لأن عائشة ما كانت تراه صلى الله عليه و سلم كل ليلة من بين تسع ليال في بعض الزمن الذي عاشت معه صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أنها روت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ءاخر عمره كان يقوم بأقلَّ من ذلك رأته قام بتسع ركعات.
و مما يدل على ما ذكرنا ما ذكره الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ونصه :" حديث أم سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة فلما كبر وضعف أوتر بسبع، رواه أحمد و الترمذي و النسائي و الحاكم وصححه من طريق عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عنها، قوله لم ينقل زيادة على ثلاث عشرة كأنه أخذه من رواية أبي داود الماضية عن عائشة ولا بأكثر من ثلاث عشرة وفيه نظر، ففي حواشي المنذري: قيل أكثر ما روي في صلاة الليل سبع عشرة وهي عدد ركعات اليوم والليلة، وروى ابن حبان وابن المنذر والحاكم من طريق عراك عن أبي هريرة مرفوعاً:" أوتروا بخمس أو سبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك " انتهى.
ثم قال الحافظ: " حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في ءاخرهن، رواه مسلم بلفظ:" كان يصلي من الليل ثلاث عشرة يوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الأخيرة منهن"، وللبخاري من حديث ابن عباس في صلاته في بيت ميمونة:" ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن" اهـ.
ويكفي في الرد ما رواه عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال:" صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتِر لك ما صليت " أخرجه البخاري في صحيحه.
و فيه دليل على أن صلاة الليل ليس لها عدد بركعاتٍ محدودة